يسود الاعتقاد في دوائر التاريخ الفنلندي بأن فترة الخمسينيات من القرن الثاني عشر الميلادي قد شهدت ختام عصر ما قبل التاريخ وبداية العصور الوسطى، وذلك عندما قام الملك “إريك” ملك السويد والأسقف “هنري” الإنجليزي المولد بشن حملة صليبية على الأجزاء الجنوبية الغربية من فنلندا. ورغم دفع الحوليات التاريخية بأن الأسقف قام “بتعميد” الفنلنديين، فقد خضع هذا القول إلى التنقيح في وقتٍ لاحق. وقد أظهرت الاكتشافات الأثرية أن الديانة المسيحية وصلت إلى الفنلنديين في مطلع القرن الحادي عشر الميلادي، وبالتالي كان الغرض الرئيسي من الحملة الصليبية هو فرض الهيمنة السويدية على فنلندا وإنشاء أسقفية بها.
وقد كانت الحملة الصليبية الأولى أيضًا جزءًا من منظور سياسي وكنسي أكثر شمولاً من ذلك بكثير. كانت السويد تتبع الكنيسة الرومانية الكاثوليكية في ذلك الوقت. وتقع في شرق فنلندا جمهورية “نوڤغورود”، والتي كانت تتبع الكنيسة اليونانية الأرثوذكسية. كانت فنلندا بلدًا غنيًا بالمصادر الطبيعية في المنتصف واجتذبت إليها الأنظار كمنطقة مرغوب فيها من كلا الجانبين بدءًا من القرن الثاني عشر الميلادي تقريبًا وما بعد ذلك. أعد السويديون العدّة لشن حملتين صليبيتين أخريين، واحدة في عام 1239 والمتجهة إلى “هامي” في وسط فنلندا وحملة أخرى في عام 1293 شقت طريقها إلى “كاريليا” (“ڤيبورغ”) في الشرق. وفي تلك الأحيان، شن سكان “نوڤغورود” غارات متكررة في عمق الأراضي الفنلندية، حيث قاموا بإضرام النيران في مدينة “توركو” بجنوب غرب فنلندا في عام 1318. لم تضع هذه النزاعات أوزارها حتى حلول عام 1323 وذلك من خلال معاهدة “باكينيساري” للسلام، والتي دفعت في نهاية المطاف بتبعية فنلندا لمملكة السويد. اضطر السويديون لحمل السلاح للدفاع عن الحدود عدة مرات على مدار العصور الوسطى والقرن السادس عشر، خاصةً بعد استيلاء حكام موسكو على “نوڤغورود” في فترة السبعينيات من القرن الخامس عشر الميلادي.
وما كان من السويديين سوى أن ثبتّوا أقدامهم على المناطق الواقعة إلى شرق بحر “آلاند” من خلال ثلاث حروب صليبية. وبعد كل حرب صليبية، كانوا يتولون بناء قلعة لخدمة الأغراض الدفاعية والإدارية على حد سواء. بنيت قلعة “توركو” عند مصب نهر “أورا” في جنوب غرب فنلندا، بجانب مدينة “توركو”، والتي ظلت تمثل المدينة الأهم في فنلندا حتى مطلع القرن التاسع عشر. بنيت قلعة “هامي” في مدينة هامي بعد الحملة الصليبية الثانية. أدت الحملة الصليبية الثالثة إلى بناء قلعة “ڤيبورغ”، على جزيرة في خليج فنلندا قبالة سواحل “كاريليا”. وأصبحت هذه القلاع الثلاثة مراكز للمقاطعات الثلاثة المتمايزة في مطلع العصر الحديدي، والتي حملت أسماء “فنلندا” و”هامي” و”كاريليا”. ولم يكن مسمى “فنلندا” يشير سوى للمستوطنات الواقعة في الأجزاء الجنوبية الغربية من البلاد في وقت متأخر من العصور الوسطى المبكرة.
قلعة “توركو”
من المرجح أن تكون قلعة “توركو” قد تم تشييدها عام 1280، أي في ذات الوقت الذي تطور فيه أحد المواقع التجارية القديمة بجوار نهر “أورا” ليتحول إلى مدينة كانت الأقدم في فنلندا، كما ظلت الأكبر حجمًا لفترة طويلة من التاريخ الفنلندي. والتي كانت تُعرف باسم “آبو” باللغة السويدية فيما عُرفت باسم “توركو” باللغة الفنلندية؛ ويستمد الاسم الأخير معناه من كلمة سلاڤية تعني “ساحة السوق”. بنيت القلعة على جزيرة تقع عند مصب النهر على هيئة مخيم محصن بشكل مستطيل له أربع بوابات. يعود نمط البناء إلى الأنماط العتيقة، والذي يمكن تتبعه في النهاية إلى الحصون التي بناها الرومان في العصور القديمة. في “توركو”، كانت الفكرة تقضي على الأرجح في ضمان إمكان تعبئة المخيم وإخلائه على جناح السرعة، وهو ما كان الحال على سبيل المثال قبل الحملة الصليبية الثالثة في عام 1293.
ومن المرجح أن تكون الحاجة إلى الحصن قد انقضت بحلول مطلع القرن الرابع عشر، عندما تم إغلاق ثلاث بوابات وتحويل الحصن إلى برج حصين مغلق. وقد تم إنشاء توسيعات متتالية باستخدام خام الجرانيت المورّد من الأماكن المجاورة. وبحلول مطلع القرن الخامس عشر، كانت القلعة مجهزة ببرج حصين وفناء. كان برج الحصن الذي كان يضم ما يزيد عن أربعين غرفة يخضع لتسلسل تدريجي صارم وما كان يُسمح إلا لعدد محدود فقط من الضيوف بالدخول إلى “الجناح الملكي” في أقصى طرف الجناح الشمالي؛ وكان هذا الجناح يتألف من قاعة بأعمدة مقنطرة وغرفة داخلية. كان الملك يقيم بطبيعة الحال في ستوكهولم في معظم الوقت، ولكن الجناح في قلعة “توركو” لا يزال جديرًا باسمه، ولم تكن هناك قلاع أخرى في فنلندا يتردد عليها الملك في كثير من الأحيان. عندما أقام أول ملك من سلالة “ڤاسا” في فنلندا لمدة أحد عشر شهرًا في الفترة ما بين عام 1555 إلى عام 1556، فقد أدار شؤون الحكم لمملكة السويد بالكامل من قاعته في قلعة “توركو”. كما تكمن أيضًا أهمية القلعة في حقيقة أنها خضعت لتسع حملات للحصار قبل نهاية القرن السادس عشر، والتي كان يرجع السبب فيها في الأساس إلى النزاع الداخلي في المملكة.
قلعة “هامي”
قلعة “هامي” (أو تاڤاستيهوس” بالسويدية)، هي القلعة الأخرى العظيمة في المملكة، وقد بنيت في المنتصف تمامًا من المناطق البرية بمدينة “هامي” وفي القرن السابع عشر، أصبحت محاطة بمدينة تحمل نفس الاسم، وهي مدينة “هامينلينا”. يبدو أن العمل على بناء القلعة قد بدأ في فترة التسعينيات من القرن الثالث عشر الميلادي بالتوافق مع تشكيل ثلاثة من أكبر “المقاطعات المحصنة بالقلاع” في فنلندا، والتي كانت تخضع لحكم الولاة التابعين لسلطة الملك في ستوكهولم. وكانت رحى القتال في مواجهة “نوڤغورود” لا تزال دائرة عندما بدأ العمل في بناء قلعة “هامي”. ولذلك شكلّت القلعة آنذاك جزءًا من خط الدفاع ضد الشرق، إلا أنه بعد انقضاء تلك الأحداث بفترة قصيرة فقد وُجد أن القلعة كانت في موقع بعيد عن الحدود الشرقية الفعلية على تلك الأحداث، وبالأخص بعد إبرام معاهدة السلام في عام 1323. ومن ثم أصبحت مركزًا لأعمال الإدارة السويدية في الأجزاء الوسطى من فنلندا.
بصرف النظر عن الطابق الأرضي، فقد بنيت قلعة “هامي” بكاملها من الطوب مما ميزها عن القلاع الأخرى في فنلندا التي ظلت تُبنى باستخدام حجر البناء الطبيعي حتى نهاية القرن الخامس عشر. ونظرًا لمخطط الطابق الأرضي مربع الشكل وكتلته ذات الهيئة الأقرب ما تكون إلى الشكل المكعب، فقد باتت القلعة تبدو أشبه ما يكون بالقلاع التي بنتها القيادات الألمانية في دول البلطيق وبروسيا الشرقية خلال العصور الوسطى. ويظهر التأثير الألماني جليًا ولا تخطئه العين، والذي يُرجح أن يكون قد امتد إلى اختيار الخامات، مثل القرميد، والذي كان يتم تصنيعه في مواقع البناء على أيدي الحرفيين الألمان. تم تنظيم التسلسل التدريجي الداخلي للغرف بحيث تكون جميع الغرف الراقية موجودة في الطابق الأول. كانت قاعة القلعة مربعة الشكل مجهزة برواق للشرفة الخارجية في الطابق الأول، والذي كان يتيح الوصول إلى جميع الغرف من خلال المداخل المزخرفة المبنية من الطوب. وتمت إعادة بناء رواق الشرفة الخارجية وإعادة ترميم المداخل.
لعة “ڤيبوري”
ثالث القلاع الهامة، قلعة “ڤيبوري” (أو “ڤيبورغ” باللغة السويدية)، هي قلعة بنيت لتكون بمثابة القاعدة الأمامية لمملكة السويد في أقصى الشرق. سقطت القلعة في أيدي الروس عام 1710، ولكنها دانت مرة أخرى للفنلنديين عام 1812. منذ نهاية الحرب في عام 1944، أصبحت القلعة بحوزة الجانب الروسي مرة أخرى. وفي خلال العصور الوسطى، تمت محاصرتها مرارًا وتكرارًا من جانب الروس، ووقع الحصار الأشهر في عام 1495، تحت حكم القيصر الروسي إيفان الثالث لدولة موسكو. بدا موقف المدافعين عن القلعة ميؤوسًا منه لولا ‘انفجار ڤيبورغ” الذي أنقذهم، والذي كان انفجارًا غامضًا أدى إلى بث الذعر في نفوس الروس لأنهم رأوا صليب القديس “أندرو” ظاهرًا في السماء.
خضعت “المقاطعات الثلاث الفنلندية المحصنة بالقلاع” من قلاع “توركو” و”هامي” و”ڤيبورغ”، على التوالي حتى فترة الستينيات من القرن الثالث عشر الميلادي. في عام 1366، تم انتخاب “آلبرخت” من “مكلنبورغ” في منصب الملك. ووفقا للنظام الألماني فقد بدأ الملك في تقسيم المقاطعات المحصنة بالقلاع إلى أقاليم أصغر حجمًا. في بعض الحالات، كانت هذه الأقاليم الجديدة والصغيرة تمُنح مساكن منفصلة للمأمورين والتي لم تعد موجودة منذ ذلك الحين. وكان ذلك هو الحال ذاته في هضبة قلعة “بوريباكين” في بورڤو و”كورسهولم” في “بوهيانما”، بالقرب من مدينة “ڤاسا” التي تأسست في وقت لاحق. ولم يتبق من هذه القلاع سوى التحصينات، في حين تم بناء قلاع حجرية لا تزال قائمة في مكانين رغم أنها لا تزال أطلالاً. إحدى هذه القلاع هي قلعة “راسيبورغ” في غرب “أوسيما” (غرب هلسنكي)، والأخرى هي قلعة “كاستلهولم” في جزر “آلاند”.
قلعة “راسيبورغ”
وقد بتنا اليوم نعلم أن أغلب الآراء ترجح تشييد قلعة “راسيبورغ” في عام 1374، لكنها آلت اليوم إلى مجرد أطلال كبيرة مشيّدة من الجرانيت بشكل أقرب إلى المربع وكانت تضم برجًا مستديرًا في ركنها. ولقد كانت القلعة مقر الوالي الذي كان مسؤولاً عن النصف الغربي من الساحل الجنوبي لفنلندا. ومن بين العوامل التي أسهمت في اتخاذ القرار ببناء مثل هذه القلعة الكبيرة أنها تمثل مكانًا أنسب من “توركو” لمباشرة الشؤون التجارية الهامة مع “ريڤال” (وهي مدينة “تالين” في الوقت الحاضر)، على الجانب الآخر من خليج فنلندا. بعد أن تم الاستيلاء على مدينة “ڤيسبي” الواقعة على جزيرة “غوتلند” من قبل “ڤلاديمير” الخامس ملك الدنمارك في عام 1361، أصبحت “ريڤال” تمثل الميناء الرئيسي لإعادة شحن البضائع على طريق “هانزا” التجاري من “لوبيك” إلى “نوڤغورود”. وكان الولاة المأتمرين بأمر الملك في فنلندا يتحصلون على مبالغ كبيرة من الضرائب المدفوعة على هيئة سلع عينية مثل الفراء والأخشاب والأسماك والزبدة، والتي كانت متجهة للسوق الأوروبية. في المقابل، كانوا يتلقون البضائع التي كان يلزم توريدها إلى فنلندا، لا سيما الملح، والتي شملت أيضًا القمح والتوابل والأقمشة والنبيذ. كانت قلعة “راسيبورغ” قيد العمل حتى فترة الخمسينيات من القرن السادس عشر الميلادي، حتى وجد الملك “غوستاڤوس ڤاسا” أنها وسيلة دفاع عفا عليها الزمن تمامًا في مواجهة الأسلحة النارية المعاصرة. ولذلك تم نقل السلطة والصلاحيات من القلعة إلى مدن “تاميساري” و”هلسنكي” التي تأسست حديثًا. واليوم باتت قلعة “راسيبورغ” من الأطلال المبهرة التي حتمًا تستحق الزيارة.
قلعة “كاستلهولم”
تتميز قلعة “كاستلهولم” الواقعة في جزر “آلاند” – والتي ترجح الآراء أن يكون العمل بها قد بدأ عام 1384 – بأنها كانت تخدم غرضين يتمثلان في تنفيذ الأعمال الإدارية والدفاع. وقد تم فصل جزر “آلاند” عن مقاطعة قلعة “توركو”، فيما خضع سكان جزر “آلاند” على مضض إلى والٍ حكمهم “من مكان قريب”. أما وظيفة الدفاع فكانت أكثر تعقيدًا، إذ كانت تنطوي على الدفاع عن أماكن أكثر من مجرد الدفاع عن جزر “آلاند” ذاتها. وصدر بيان في عام 1525 يصف قلعة “كاستلهولم” بأنها “مفتاح الدخول إلى السويد”، وهو ما يعد دليلاً على الأهمية المنسوبة إلى قلعة “كاستلهولم” كآخر قاعدة بحرية أمامية في الدفاع عن ستوكهولم. وكان لهذا الرأي ما يبرره تمامًا في عصر كانت فيه الطرق الرئيسية هي طرق الملاحة عبر البحار ومن خلال “مجموعات الجزر المتقاربة” (الأرخبيلات). إلا أن قلعة “كاستلهولم” فقدت مصدر أهميتها في القرن السابع عشر، وظلت قائمة رغم أن الدمار كان قد أصاب جانبًا منها، في حين ظلت بعض الجدران الداخلية منها سليمة لم تمسسها يد.
تم بناء جميع القلاع الخمسة المذكورة حتى الآن قبل ظهور الأسلحة النارية. وبالتالي فهي كانت مصممة لتحمل السهام والرماح ومعدات الحصار، والتي كانت تُستخدم لإطلاق الصخور الكبيرة. يبدو هذا الأمر جليًا من خلال مظهرها الخارجي. كانت الأبراج المحصنة الموجودة على الجزء العلوي من جدران القلعة في غاية الأهمية؛ فقد صُممت لضمان عدم إمكانية دخول أي أحد بهذه الطريقة. وقد تغير الوضع تمامًا عندما تم استقدام الأسلحة النارية؛ فقد تعين تركيز وضع آليات الدفاع في أبراج خاصة بارزة ومجهزة بفتحات لإطلاق الرصاص منها. كما كان يلزم أيضًا ضمان عدم إمكانية قيام المهاجمين باختراق الجدران من خلال قوة أسلحتهم النارية. ويرتبط أول ذكر للأسلحة النارية في فنلندا باسم قلعة “ڤيبورغ” في عام 1429.
قلعة “أولاڤينلينا”
أول قلعة فنلندية يتم بناؤها للاستخدام في عصر الأسلحة النارية هي قلعة “أولاڤينلينا” (“أولوفسبورغ” باللغة السويدية) في المناطق البرية من شمال “كاريليا”. تقع القلعة على جزيرة تضم نظامًا من البحيرات والمجاري المائية الداخلية، وبدأت أعمال البناء في عام 1475 تحت إدارة السويديين، لسبب رئيسي وهو ترسيم الحدود. وكانت “نوڤغورود” قد خضعت لحكام موسكو تحت إمرة القيصر الروسي الأكبر “إيڤان” الثالث. وبعد أن أعلن عن نيته صراحةً لغزو فنلندا كمحطة قادمة له، فقد رغب السويديون في توضيح أين تقع حدود دولتهم في المناطق البرية غير المأهولة وفقًا لمعاهدة السلام لعام 1323. كانت عملية البناء مؤثرة، بسبب شعور الروس بأن القلعة يجري بناؤها على الجانب الخطأ من الحدود، وبالتالي فعلوا كل ما بوسعهم لتعطيل أعمال البناء. وكانت القوارب التي تجلب الرمل والحجر والجير إلى موقع البناء، على سبيل المثال، تقع فريسة للهجوم عليها في العديد من المناسبات. وقد أثبت البحث العلمي في عصرنا الحالي أن الروس كانوا محقين، حيث وُجد أن القلعة بنيت بمسافة خمسة كيلومترات تقريبًا داخل نطاق الأراضي الروسية آنذاك.
وتشير القلعة وأبراجها البارزة المستديرة بوضوح إلى أنها بنيت بعد أن بدأ استخدام الأسلحة النارية. في نهاية القرن الخامس عشر، لم يكن هناك أي أستاذ بناء في فنلندا يمكنه أداء هذه المهمة، كما أن الحاكم “إريك أكسيلسون توت”، قد ذكر في رسالة يعود تاريخها إلى عام 1477 بأنه كان يوجد لديه “16 من الأساتذة البنائين الأجانب البارعين” على جزيرة القلعة. يشير أسلوب البناء المستخدم إلى أنهم أتوا من “ريڤال” (تالين)، حيث تم توسيع جدار المدينة بنفس الأسلوب وفي نفس الفترة تقريبًا.
لم تذهب جهود بناء قلعة “أولاڤينلينا” سدى، فقد أقدم “إيڤان” الثالث على تنفيذ تهديداته بالفعل وحوصرت القلعة في عامي 1495 و1496، لكنها صمدت في مواجهة الحصار في المرتين. وتبع ذلك المزيد من الحصارات خلال الحملة الروسية للملك “غوستاڤوس ڤاسا” في الفترة من عام 1555 إلى عام 1557، عندما كان القلعة مجهزة بحامية مكونة من 200 رجل تقريبًا.
قلعة “كوسيستو”
أنشئت جميع القلاع المذكورة حتى الآن بأوامر من الملك السويدي من أجل الدفاع عن فنلندا كجزء من المملكة، ولتنظيم الأمور الإدارية والضرائب بها من خلال الولاة التابعين على حد سواء. ومع ذلك، كانت هناك قلعة واحدة أخرى كبيرة نسبيًا ولعبت دورًا هامًا في تاريخ الجانب الفنلندي من مملكة السويد طوال العصور الوسطى، ألا وهي قلعة “كوسيستو” (أو “كوستو” بالسويدية)، والتي تقع جنوب شرق “توركو” تمامًا، حيث بدأت أعمال البناء بتكليف من الأسقف في “توركو” عام 1317. كان هذا الأسقف واحدًا من مجموع سبعة أساقفة في مملكة السويد وكانت أسقفيته هي ثاني أكبر أسقفية في المملكة، حيث أنها كانت ممتدة على طول الطريق من “ڤيبورغ” في الشرق إلى إقليم لابي في الشمال. بما أن الأسقف كان أيضًا عضوًا في مجلس حكام المملكة، فإنه لم يكن مجرد شخصية كنسية فقط ولكن شخصية سياسية أيضًا، وهذا هو أحد الأسباب الذي يفسر حاجته إلى بناء حصن: كما أنه امتلك أيضًا جيشًا خاصًا به. عندما حاصر سكان موسكو قلعة “ڤيبورغ” عام 1495، كان الأسقف “ماغنوس” الثالث قادرًا على المساهمة بمئة فارس مسلح للدفاع عنها.
آلت قلعة “كوسيستو” اليوم إلى أطلال، لأن “غوستاڤوس ڤاسا” أصدر أوامره بتدميرها في عام 1528 في إطار معركته لمواجهة الكنيسة الكاثوليكية بعد حركة الإصلاح الديني. ومع ذلك، لا يزال من الممكن رؤية أن القلعة كانت تتألف من برج حصين وثلاثة أفنية. وتوجد آثار لأبراج المدفعية التي من المرجح أنها بنيت في فترة الثمانينات من القرن الخامس عشر الميلادي، في الزوايا. وقد كانت المدافع ضرورية لحماية الأسقف في قلعته.
استخدام القلاع منذ عام 1500 وحتى وقتنا الحالي
تزايدت تدريجيًا قوة الأسلحة النارية، وبحلول القرن السادس عشر، كانت قلاع القرون الوسطى بالفعل من القدم بدرجة لا تؤهلها للأغراض الدفاعية. ولا يمكن معالجة هذا الأمر سوى بإضافة أعمال الحفر، وبالتالي بنيت هذه القلاع في “توركو” و”هامينلينا” على سبيل المثال. ولكن بما أن القلاع مبنية بأساس قوي، ومعظمها من الجرانيت، فلا يزال من الممكن توظيفها في جوانب جديدة لها في القرن السادس عشر. وكان ذلك الوضع ينطبق على وجه الخصوص على قلعة “توركو”، حيث تمت إعادة بناء الأجزاء العلوية في فترة الخمسينيات من القرن السادس عشر الميلادي، فيما يُسمى اليوم باسم جناح النهضة للدوق “جون”، ابن الملك “غوستاڤوس ڤاسا”، الذي أصبح فيما بعد الملك “جون” الثالث ملك السويد. وكان “غوستاڤوس ڤاسا” هو الملك الذي أدخل نظام الوراثة الملكية في السويد، وبالتالي منح دوقيات لأربعة من أبنائه ليتمكنوا من تعلم كيفية الحكم فيها. وباعتباره دوق فنلندا، فقد أقام “جون” في قلعة “توركو” لمدة سبع سنوات، قضى العام الأخير منها مع زوجته الأميرة البولندية “كاثرين جاجلونيكا”، التي أسهم بلاطها الملكي بما له من تأثيرات إيطالية قوية في منح طابع عصر النهضة أول موطئ قدم له في فنلندا. وللأسف آلت التجهيزات الخاصة بمساكن عصر النهضة إلى الدمار في حريق نشب عام 1612.
اعتبارًا من القرن السابع عشر، لم تعد القلاع تصلح سوى للمهام الأقل أهمية؛ فقد تحولت إلى ثكنات عسكرية، وسجون، ومستودعات، ومعامل تقطير، ومخازن للقمح. ولكن من ناحية أخرى، ظلت القلاع فريدة من نوعها؛ فقد بنيت بصلابة من الحجر الطبيعي حتى أنها لم تكن تستحق هذه الجهود ليتم تدميرها. ظلت القلاع بالتالي في هيئة “أشباح من الماضي”، كما قال أحد الشعراء في وصفها. في هذه الحالة، اختلفت الظروف في فنلندا عن تلك الظروف الموجودة في دول مثل السويد أو الدنمارك. في هذه البلدان، توفرت مواد البناء الأنعم مثل الحجر الرملي أو الحجر الجيري وكان الطوب رخيصًا. ونتيجة لذلك، كان من الممكن دائمًا هدم المنشآت القديمة واستبدالها بأخرى جديدة. لذلك، لم يعد لهذه البلدان أي قلاع قديمة مبنية من الجرانيت المماثلة لنوع القلاع التي لا تزال موجودة في فنلندا.
في الآونة الأخيرة، ومنذ وقوع الحرب العالمية الثانية، مُنحت بعض قلاع القرون الوسطى في فنلندا فرصة جديدة للحياة مرة أخرى. تم إنقاذها من التدهور وإعادة ترميمها، وأصبحت مسرحًا لأنشطة جديدة. قلعة “توركو”، التي تم توسيعها تدريجيًا على مدار ثلاثمائة عام تقريبًا ابتداء من عام 1280 تقريبًا لتكون واحدة من أكبر القلاع في بلدان الشمال الأوروبي، هي واحدة من أكثر المعالم التاريخية شعبية في فنلندا. بفضل ما تظهره الحقائق بأن أجزاء قليلة جدًا من القلعة هُدمت على الإطلاق، لا يزال أثر القرون واضحًا عليها، حيث أنها كانت مؤلفة من طبقة فوق طبقة أخرى، وبالتالي تمثل زيارة القلعة رحلة تمر عبر تاريخ فنلندا بالكامل. وعلاوة على ذلك، تمت تهيئة جناح النهضة بدءًا من فترة الخمسينيات من القرن السادس عشر الميلادي ليتم استخدامه كغرف استقبال رسمية في مدينة “توركو”، مما ساهم في توفير موقع وقور ومناسب لحفلات الاستقبال التي أقيمت على شرف عدد من رؤساء الدول وغيرهم من الشخصيات المرموقة. تمت إعادة ترميم قلعة “هامي” بموجب الكثير من المبادئ ذاتها، وتشمل أيضًا قاعات المعارض المستخدمة من جانب المتحف الوطني الفنلندي.
من بين القلاع التي تمت إعادة ترميمها، قامت قلعة “أولاڤينلينا” في “ساڤونلينا”، الواقعة في شمال نظام المجاري المائية في “سايما”، ببناء سمعة دولية لنفسها من خلال مهرجان الأوبرا المقام في المدينة. في كل صيف منذ عام 1969، كانت عروض الأوبرا المتخصصة عالية المستوى تقام في فناء القلعة لمدة تتراوح من أربعة إلى خمسة أسابيع. على الرغم من أنه تمت إعادة ترميم القلعة وفقًا للمبادئ المعاصرة الصارمة لترميم الآثار التاريخية، فمن الممكن مع ذلك نصب منصة مؤقتة ومقاعد تسع 2000 من الجمهور تقريبًا في الفناء. شمل مرجع الذخائر الفنية العديد من الأعمال الكلاسيكية مثل “الناي السحري” لموتسارت و”الهولندي الطائر” لفاغنر، وعروض الأوبرا الفنلندية المعاصرة أيضًا، والتي كانت تمتلك فرصة تأسيس سمعة جيدة لها بفضل مهرجان “ساڤونلينا”.
في النهاية، يمكن القول أنه تم التعامل مع قلاع القرون الوسطى في فنلندا باحترام دائمًا، وأن هذا يمثل أحد الأسباب في وجودها المستمر إلى يومنا هذا. هذا الوضع مثير للاهتمام، لأن تاريخ القلاع يمكن أيضًا أن يوفر الدعم لإنشاء تفسير معاكس. ورغم ذلك فقد حلت أوقات حيث قام عموم الشعب الذين يعيشون حول القلاع بسب ولعن حكامهم ومأموريهم، فإن سمعة القلاع لا تزال بالدرجة الأولى تثير علامات الذهول والشعور بدرجة من درجات الفخر بهذه الإنشاءات العظيمة، التي تعد دليلاً ملموسًا على أحداث هامة في تاريخ فنلندا.
بقلم كارل جيكوب جاردبرج، عالم آثار حكومي، أبريل 2002