فيأحد كتب توفي يانسون (Tove Jansson) نلتقي بشخصية مسكرات (Muskrat)، وهو فيلسوف متجهم يعيش مؤقتًا مع عائلة المومين. اختفت كعكة من على طاولة الطعام في ظروف غامضة، لكن مسكرات لم يُعر الأمر أي اهتمام — كل ما كان يريده هو التفكير العميق بسلام في ركنه الهادئ. وبعد قليل من التحقيق والتحري، نكتشف أنه كان جالسًا فوق الكعكة طوال الوقت.
تصرفات مسكرات ليست سوى مثال واحد من بين عدد لا يُحصى من الأمثلة، يبرز فيها قدرة يانسون الاستثنائية على التعبير عن مدى هشاشة إنسانيتنا. عرفها العالم واشتهرت بشخصيات المومين، لكنها كانت فنانة غزيرة الإنتاج ومتعددة المواهب — فنانة تشكيلية، ومصممة رسوم توضيحية، ورسامة فنون هزلية، وكاتبة أيضًا. نتاجها الإبداعي كان كفيلاً بملء عدة حيوات دون عناء.
“لمسة قلمها نابضة بالحياة، ورقيقة، وآسرة، ولا يمكن تقليدها. إنها من أروع الأشياء في هذا العالم”، هكذا وصفتها مؤرخة الفن وكاتبة الكتب غير الروائية توولا كاريالاينين (Tuula Karjalainen)، مؤلفة كتاب السيرة الذاتية Tove Jansson: Work and Love.
لنحيا بحرية

في سنوات نضجها، عاشت يانسون وعملت في مرسم بسقف عالٍ في شارع Ullanlinnankatu 1 بمنطقة كارتينكاوبونكي. وتتطلب زيارات المجموعات تصريحًا خاصًا من وكالة رعاية المواهب Moomin Characters Ltd، لكن العابرين يمكنهم التوقف للحظة أمام الواجهة وتأمل النحت البارز الذي يخلد يانسون في شبابها.
في رواية يانسون المحبوبة The Summer Book، تُعلم الجدة صوفي قيمة اتخاذ قراراتها بنفسها، قائلة: “كل شيء سيكون بخير ما دام المرء قادرًا على أن يكون حرًا.” تلخص هذه العبارة جوهر فلسفة يانسون في الحياة ببراعة.
فالحرية كانت خيطًا ناظمًا في عالمها الإبداعي، وغالبًا ما تتجسد من خلال شخصياتها. فعلى سبيل المثال، هناك شخصية سنوفكن (Snufkin) من عالم المومين – رحالة متفرد ينام في خيمة ويعزف على هارمونيكا يملؤها الشجن. وعندما ينقضي الصيف، يجمع أمتعته ويرحل عن وادي المومين لقضاء الشتاء بعيدًا.
رغم أن أعمالها حظيت بحب كبير على نطاق واسع حول العالم، إلا أن يانسون كانت ترسم وتكتب وتُبدع من أجل ذاتها فقط. كان هذا أسلوب حياة اختارته بحرية؛ وهو النضال الذي خاضته طوال حياتها للدفاع عنه أو لتحقيقه.
ففي طفولتها، كانت تُمنح حرية التجوال وحدها في منزل العائلة المطل على البحر في هلسنكي. اعتادت عائلة يانسون قضاء الربيع والصيف في جزيرة تقع شرق هلسنكي، وسط الطبيعة البرية الخلابة للأرخبيل. ورغم أنها التحقت لاحقًا بأكاديمية الفنون الجميلة المرموقة (École des Beaux-Arts) في باريس، إلى جانب مؤسسات أخرى، فإنها واجهت صعوبة في سنوات تعليمها الأولى.
تقول كاريالاينين: “كانت أكثر اهتمامًا بحكايات المغامرات المشوقة التي كانت تقرأها لها والدتها، أكثر من اهتمامها بالمدرسة. وللمفارقة، لا وجود لمدرسة في وادي المومين.
رسائل حب إلى البحر

جزيرة كلوفهارون. أرخبيل بيلينكي قرب مدينة بورفو كان أكثر من مجرد مكان ليانسون – كان مصدر إلهام عميق نسج ملامح حياتها وإبداعها. قضت هناك 28 صيفًا على جزيرة كلوفهارون بصحبة رفيقة دربها توليكي بييتيلاي، وقد اهدت كوخهما لجمعية التراث المحلية، وكأنها تودع المكان بمحبة وامتنان. تشكل جزيرة كلوفهارون والجزر الصغيرة المحيطة بها محمية طبيعية.
أمضت توفي يانسون معظم حياتها على تماسٍ دائم مع البحر، الذي شكل الخلفية الدائمة لعالمها. وربما كان اتساع البحر ولا حدوده هو ما كانت يانسون تتوق لتجسيده في ذاتها. البحر يفعل ما يشاء: “يُزبد بجنون، ويهيج بغضب، ومع ذلك يبدو هادئًا بطريقة ما”، كما كتبت يانسون في Moominpappa at Sea. ذلك الامتداد المائي الذي يشكل واحة منعشة يمرح فيها شخصيات المومين، قد ينقلب في لحظة إلى قوة جامحة لا يمكن التنبؤ بها – قد يُغرق قاربًا أو يمزق خيمة.
كانت ترى في البحر معبدها، وتخضع له بخشوع العاشق. كانت تقضي فترات طويلة بمفردها وسط الأرخبيل، رغم خوفها العميق من الظلام، وكأن البحر كان يبدد عتمتها الداخلية. تقول كاريالاينين: “البحر هو من وسع أفق حريتها.”
بعض كتابات يانسون كُتبت حرفيًا في قلب البحر، على جزيرة تركت أثرًا عميقًا في عالمها الإبداعي. أمضت يانسون العديد من فصول الصيف على جزيرة كلوفهارون الواقعة في بيلينكي، وسط أرخبيل شرق هلسنكي، برفقة رفيقة دربها، فنانة الجرافيك توليكي بييتيلاي (Tuulikki Pietilä).
كانت جزيرة كلوفهارون بجغرافيتها الصخرية وضآلة حجمها صعبة الوصول، ولا كهرباء فيها ولا ماء جارٍ، فقط الطبيعة في أقصى تجلياتها. ومع ذلك، شعرت يانسون وبييتيلاي بانجذاب عميق نحو الجزيرة، فقامتا ببناء كوخ هناك احتضن حريتهما وعزلتهما المختارة. حين اكتمل بناء الكوخ أخيرًا على جزيرة كلوفهارون، كان تمامًا كما حلمتا به: أربعة جدران، وأربعة نوافذ تطل على الأفق، ومكتب مشترك للرسم والكتابة.
رقصة طويلة تنبض بالمغامرات

كنيسة تيوفا. في بلدة تيوفا قرب مدينة سينايوكي في غرب فنلندا، تحتضن الكنيسة التي تحوي العمل الفني الوحيد الذي أبدعته توفي يانسون لمذبح كنيسة. رُسمت لوحة العذاري العشر (Ten Virgins) مباشرة على الجدار الحجري للكنيسة، ولا تزال ألوانها الزاهية المتقدة تنبض بالحياة بعد مرور 71 عامًا على إنجازها، وكأن الفرشاة لم تغادرها إلا بالأمس.
تسربت علاقات يانسون وتجاربها الحياتية إلى صفحات كتبها ورسومها الهزلية. ثنائي المومين الذي لا يفترق، ثينجومي وبوب، يجسدان يانسون ومخرجة المسرح فيفيكا باندلر (Vivica Bandler)؛ أما شخصية تو-تيكي الحكيمة الرزينة، بقميصها المخطط، فهي انعكاس حي لشخصية بييتيلاي. كما أن كتابها الصادر عام 1968 Sculptor’s Daughter ليس مجرد سرد أدبي، بل مرآة عاكسة لطفولتها كما عاشتها، لا كما تخيلتها.
“لم تكتب يومًا جملة واحدة لم تكن قد عاشتها أو مست مشاعرها. لم يكن في كلماتها شيء عابر، سواء حين وصفت الطبيعة أو حين كشفت عما يدور في أعماقها.”
في خضم الحرب العالمية الثانية، وجدت يانسون قلبها يميل نحو فيفيكا باندلر، ووقعت في حبها. كان الوقوع في حب امرأة تجربة جديدة وغريبة عنها، لكنها كتبت لصديقة لها قائلة: “بالنسبة لي، يبدو الأمر طبيعيًا تمامًا، وصادقًا على نحو لا يقبل الشك. كانت الأسابيع الأخيرة وكأنها رقصة طويلة تنسج بين ثناياها مغامرات غنية، ودفء عاطفي، وحدة مشاعر متأججة.”
كسرت توفي يانسون الحواجز وأصبحت اليوم رمزًا للمثليين ورائدة في قضايا مجتمع الـ +LGBTQ، وهذا في محله تمامًا؛ فقد تحدت التيار السائد في زمن تسود فيه المعايير الصارمة. كانت المثلية الجنسية غير قانونية في فنلندا حتى السبعينيات، رغم أن يانسون كانت قد بدأت علاقتها العاطفية مع امرأة منذ عقود قبل ذلك. لم تتزوج قط، ولم تُنجب أطفالاً. كانت حياتها مسارًا اختطته لنفسها، لا يشبه أحدًا ولا يخص سواها.
كما تقول كاريالاينين: “لم تكن من أولئك الذين يرفعون الشعارات أو يهتفون بالاحتجاج. بالنسبة لها، كانت حياتها أمرًا طبيعيًا تمامًا – تعيشها كما تريد، وبشروطها وحدها، ومسؤولة عنها أمام ذاتها فقط.”

رانكي، كوتكا. تحول كتاب The Summer Book ليانسون إلى فيلم سينمائي صدر في عام 2024، تتألق فيه الممثلة المرشحة لجائزة الأوسكار جلين كلوز بأدائها المميز. كان الموقع الرئيسي للتصوير هو جزيرة رانكي العسكرية السابقة، الواقعة قبالة ساحل كوتكا.
نص بقلم كريستينا إيلا ماركانين (Kristiina Ella Markkanen)، مجلة ThisisFINLAND
صور بعدسة بير أولوف جانسون (Per Olov Jansson)/وكالة رعاية المواهب Moomin Characters Ltd